فصل: مسألة حلفت في عبد لها ألا تبيعه ولا تهبه فأرادت أن تتصدق به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة حلفت في عبد لها ألا تبيعه ولا تهبه فأرادت أن تتصدق به:

ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية:
مسألة عن امرأة حلفت في عبد لها ألا تبيعه ولا تهبه، فأرادت أن تتصدق به على ولدها، فقال: لا يعجبني ذلك، وأرى هذا على نحو الهبة.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال، وهو بين؛ لأن الهبة تعتصر، والصدقة لا تعتصر، فإذا حنث بالهبة فالصدقة أحرى أن يحنث بها، ولا تنوى في ذلك إن ادعت نية، وكانت يمينها مما يحكم به عليها، ولو حلفت ألا تتصدق به فوهبته لابنها، وهو ممن لها أن تعتصر منه، فادعت أنها إنما حلفت على الصدقة من أجل أنها لا تعتصر، لوجب أن تنوى في ذلك.

.مسألة يبيع الجارية فيحلف ألا يضع من ثمنها شيئا فيجدها المبتاع معيبة:

وسئل عن الرجل يبيع الجارية، فيحلف ألا يضع من ثمنها شيئا، فتمكث عنده، ثم يجد بها الذي ابتاعها عيبا، فيردها منه، فيضع له السلطان، فقال: ما أرى على صاحبها حنثا؛ لأنه لم يحلف على ذلك.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال؛ لأنه إنما حلف ألا يضع عن المبتاع من حقه الواجب له عليه شيئا، وذلك ما لا يصح أن يحكم به عليه، فوضيعة السلطان عنه لمكان العيب إنما هو حكم له بإسقاط ما لا يلزمه، وذلك ما لم يحلف عليه البائع، ولو سأله المبتاع ذلك، فحلف عليه فرفعه المبتاع إلى الحكم، فحكم عليه به يجري ذلك على الاختلاف الذي ذكرناه في رسم تسلف في المبتاع والحيوان، وبالله التوفيق.

.مسألة حلف ألا تواكله امرأته في صحفة واحدة فجاءته برطب في طبق فأكلت:

ومن كتاب البز:
مسألة وسئل مالك عن رجل حلف ألا تواكله امرأته في صحفة واحدة شهرا، فجاءته برطب في طبق، فإذا فيه بضعة لحم، فقال لها: ما هذه البضعة؟ قالت: إن الخادم وضعتها، والمرأة لا تأكل معه، وكان الرجل يأكل في طبق رطبا، وهي لا تأكل معه، فتناولت المرأة البضعة لتأكلها، فأخذها من يدها، فقال: قد حلفت ألا تأكل معي في صحفة، ثم أمسكها في يده، ووامر نفسه ثم قال: إنما قلت: في صحفة فناولها إياها فأكلتها، قال مالك: أخاف عليه الحنث، وكان طلاقه إياها واحدة، فأمره أن يطلقها واحدة ثم يرتجعها، قال: فقلت له: الطبق والصحفة واحد؟ من حلف ألا يأكل في صحفة، فأكل في طبق حنث؟ قال: نعم، وهو واحد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على الأصل في أن الأيمان إنما ينظر فيها إلى معانيها، لا إلى مجرد ألفاظها كما يقول أهل العراق؛ لأن الحالف ألا تواكله امرأته في صحفة إنما معناه ألا تواكله في إناء واحد، فخرجت يمينه على الصحفة؛ لأن الصحاف هي التي يأكل الناس فيها في غالب الأمر، لا لأنه قصد الصحفة دون غيرها من الآنية والظروف، فوجب أن لا يعتبر بتسمية الصحفة لهذه العلة، ولو اعتبر لوجب ألا يحنث إذا أكلت معه في جفنة أو في برمة، أو في صحفة صغيرة، وهذا ما لا يمكن أن يقال بوجه؛ لكونها في معنى الصحفة سواء، فلو سمي- على هذا القياس الذي أصلناه وهو صحيح- ما لا يوكل فيه في غالب الأمر، لوجب أن يراعى تسميته، ولا يحنث إذا واكلته في غيرها؛ لما يظهر من قصده إلى الحلف على ما سمي دون سواه، فإذا حلف ألا يأكل مع امرأته في طبق لم يحنث إذا أكلت معه في صحفة، وكذلك لو سمى الطبق مما لم تجر العادة أن يوكل فيه إلا نادرا، ولو حلف ألا يأكل معها فاكهة في طبق، فأكل معها فاكهة في غير طبق صحفة أو غيرها من الآنية لحنث؛ لأن الفاكهة لما كانت لا توكل في غالب الأمر إلا في الأطباق علم أن يمينه إنما خرجت على الطبق لذلك؛ لأنه قصد إلى الطبق دون ما سواه من الآنية والظروف، وهذا أصل يطرد.
من ذلك قولهم: من حلف ألا يأكل خبزا، فأكل كعكا أنه يحنث، ومن حلف ألا يأكل كعكا، فأكل خبزا أنه لا يحنث، ومن حلف ألا يدخل على فلان بيتا، فدخل عليه الحمام أو السجن حنث، ومن حلف ألا يدخل على فلان حماما ولا سجنا، فدخل عليه بيتا ليس لحمام ولا سجن لم يحنث، ومثل هذا كثير، وقوله في المسألة: فأمره أن يطلقها واحدة، كلام ليس على ظاهره من أنه أمره أن يستحدث لها طلاقا، وإنما معناه أنه أمره أن يعد ما قد وقع عليه من الحنث بأكلها البضعة من الطبق طلقة واحدة ثم يرجعها، ولو استحدث لها طلاقا على ظاهر لفظه؛ لكانت طلقة أخرى سوى الطلقة التي حنث بها، وهذا بين لا إشكال فيه.

.مسألة حلف لا يشتري من رجل سلعة فاشترى منه رجل سلعة فأشركه فيها:

وسئل عن رجل حلف ألا يبتاع من رجل سلعة، فاشترى منه رجل سلعة، فأراد أن يشرك ذلك الرجل فيما اشترى، قال: لا يعجبني ذلك، قيل له: أيشتري منه غلامه؟ قال: لا أرى ذلك له.
قال محمد بن أحمد: إنما قال في الذي حلف أن لا يشتري من رجل سلعة، فاشترى منه رجل سلعة، فأشركه فيها لا يعجبه ذلك؛ لأن عهدته تكون عليه، فضارع عهدة من حلف ألا يشتري من فلان سلعة، فوكل غيره فاشتراها له منه أنه حانث، ولم يكن عنده بمنزلة ذلك سواه، ولذلك قال: لا يعجبني ولم يقل: لا يجوز؛ لأنه من حلف ألا يشتري سلعة من فلان فأمر غيره فاشتراها له منه هو حانث على كل حال، إلا أن يكون نوى ألا يلي هو الشراء منه بنفسه، فبينوا في ذلك أنه إن أتى مستفتيا، أو كانت يمينه مما لا يقضى عليه بها، أو في شراء غلامه منه تفصيل، أما إن كان الغلام يعمل بمال سيده، فاشترى منه بأمره، فلا إشكال في أنه حانث بمنزلة الذي يحلف ألا يشتري السلعة من رجل، فوكل غيره على أن يشتريها له منه، ولم يتكلم في الكتاب على هذا الوجه، وإنما تكلم إذا اشترى منه بغير أمره، وهو يعمل أيضا بمال سيده؛ لأن معنى قوله: أفيشتري منه غلامه بغير إذنه يريد بغير علمه، فقال: لا أرى ذلك له يريد أنه يحنث إن فعل؛ لأن الشراء يجب له، والعهدة تكون على المحلوف عليه، فذلك بمنزلة المسألة التي قال فيها: لا يعجبني، وأما إن كان العبد يعمل بمال نفسه، فيتخرج ذلك على الاختلاف في الذي يحلف ألا يركب دابة لغيره، فيركب دابة عبده، والقولان في النذور في المدونة.

.مسألة طلب منه مالا فحلف بالمشي إلى الكعبة إن كان معه إلا عشرة:

وسئل مالك عن رجل جاءه أخ له يستسلفه خمسة عشر دينارا، فحلف بالمشي إلى الكعبة، إن كان معه إلا عشرة، ففتح كمه فلم يجد إلا تسعة دنانير، قال مالك: لا أرى عليه حنثا، قال ابن القاسم: ولو كان معه أحد عشر دينارا حنث، وإنما سقط عنه الحنث حين لم يجد معه إلا تسعة؛ لأنه حلف على أنه ليس معه أكثر من عشرة، فلذلك لم يكن عليه شيء.
قال محمد بن أحمد: هذا بيِّن لا إشكال فيه ولا اختلاف؛ لأن معنى يمينه أنه ليس معه أكثر من عشرة إذ طلب منه المستسلف خمسة عشر دينارا، وإلى ذلك قصد بيمينه، لا إلى أن معه عشرة.

.مسألة قال بعيراي هذان بعد سنة في سبيل الله فأقاما في يديه ثم هلك الرجل:

وسئل مالك عن رجل قال: بعيراي هذان بعد سنة في سبيل الله، فأقاما في يديه ثم هلك الرجل قبل السنة، أتراهما من رأس المال أم من الثلث؟ قال: ما علمت أن هذا يُفعل، فإن جعل شيئا في سبيل الله فلينفذه، قيل له: أفلا تراه مثل الذي يعتق إلى سنة؟ قال: لا، قد يدبر العبد، وليس في الإبل تدبير، فكأنه يقول: ليس هذا بشيء.
قال محمد بن أحمد: قوله: إنه إن هلك الرجل قبل السنة بطل ذلك، ولم يكن في رأس مال ولا ثلث، صحيح على أصولهم؛ لأنه صدقة في الصحة لم تُحَزْ عنه حتى مات، فوجب أن تبطل، وكذلك لو أتت السنة وهو مريض، فمات من مرضه ذلك على مذهب ابن القاسم، وقد قيل فيما أحسب إن ذلك يكون من الثلث، وإن أتت السنة وهو حي صحيح نفذا في السبيل، واختلف هل يحكم عليه بذلك إن أبى أن ينفذه على الاختلاف في الذي يتصدق على المساكين، فيأبى أن ينفذ ذلك، والقولان في المدونة على اختلاف الرواية في ذلك، وليس له أن يبيعهما ولا يفوتهما قبل السنة، واختُلف هل يحكم عليه بذلك أم لا على الاختلاف المذكور، ولو قال: بعيراي هذان بعد سنة صدقة على فلان؛ لحُكم عليه ألا يبيعهما قبل السنة، وأن يسلمهما إليه بعد السنة إن أتت، وهو صحيح قولا واحدا على ما قاله ابن القاسم، في رسم الجواب، من سماع عيسى، من كتاب الصدقات والهبات، فقوله في آخر المسألة، فكأنه يقول: ليس هذا بشيء يريد أنه يبطل إن مات قبل السنة، إلا أن قوله: لا يوجب حكما، ويبطل في كل حال؛ لأن الحكم فيه يجري على ما قلناه، وبالله التوفيق.

.مسألة قضي عليه بيمين فأراد أن يفتدي منها:

ومن كتاب أوله باع غلاما:
مسألة وسئل مالك عن ابني عم وقع بينهما ميراث فتشاجرا، فحلف أحدهما بيمين غليظة إنْ دفع إليه شيئا حتى يقضي به عليه السلطان فاختصما، فقضي على الحالف باليمين، وأراد أن يفتدي من اليمين، ويدفع إليه في ذلك حقا، فكره ذلك، وقال: لا يدفع إليه شيئا، ويحلف إن كان بارا، فقيل له: لو أن رجلا قضي عليه بيمين، فأراد أن يفتدي منها، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن أحمد: قوله: إنه لا يفتدي من اليمين بثمن يدفعه إليه صحيح؛ لأنه قد حلف ألا يدفع إليه شيئا، إلا بقضاء سلطان، والسلطان لم يقض عليه إلا باليمين، لا بما افتدى به منها، وقوله: ويحلف إن كان بارا صحيح أيضا؛ لأنه إن نكل على اليمين فحلف ابن عمه، وأخذ ما ادعى حنث هو في يمينه، فإن كان غير بار لم يحل له أن يحلف، ويحلف ابن عمه ويأخذ ما ادعى، ويحنث هو في يمينه؛ إذ كان إنما حلف وهو عالم بصحة دعواه، ليقتطع حقه، فإن اجترأ على الله، وحلف بر في يمينه وأثم في اقتطاع حق ابن عمه بيمينه الفاجرة، كمن حلف أن يسرق أو يزني أو يشرب خمرا، وكذلك إن لم يعلم إن كان ما يدعي ابن عمه حقا أو باطلا؛ إذ لا يجوز له أن يحلف على غير يقين، وقد وقع في أول رسم البراءة، من سماع عيسى، من كتاب الأيمان بالطلاق لفظ، قال فيه بعض الناس: إنه يدل على أن له أن يحلف فيما لا يوقن به، وهو بعيد، فالصواب أن يتأول على ما تأولناه عليه هناك، فلا يدل على أنه يجوز له أن يحلف على ما شك فيه، وبالله التوفيق.

.مسألة الصبي هل يلزمه بعد بلوغه ما نذره على نفسه قبل بلوغه:

قال مالك: كان حلف عبد الله بن أبي حنيفة في الجرو القتاء بعد أن احتلم.
قال محمد بن أحمد: قوله صحيح؛ لأنه لو كان لم يحتلم لما لزمه النذر؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رفع القلم عن ثلاث» فذكر فيهم الصبي حتى يحتلم، ولا اختلاف أعلمه في أن الصبي لا يلزمه بعد بلوغه ما نذره على نفسه قبل بلوغه، إلا أنه يستحب له الوفاء به، وقد قال ابن كنانة: إن الصغير إذا حلف به قبل بلوغه لزمه إذا حنث فيه بعد بلوغه، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن المشرك إذا نذر في حال الكفر يلزمه الوفاء به بعد الإسلام؛ لما روي من أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال للنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد الحرام، فقال له النبي: فِ بنذرك»، وهو عندنا وعند أكثر أهل العلم على أن ذلك على الندب لا على الوجوب، ومما يدل على ذلك أيضا أن فِ لا تُستعمل إلا فيما ليس بواجب، يقال: وفى بالوعد، وأوفى بالحق والنذر، فيلزم على قول من أوجب على الكافر الوفاء بالنذر بعد إسلامه أن يوجب على الصغير الوفاء بالنذر بعد بلوغه، بل هو أحق أن يجب عليه على مذهبه؛ لأن الصغير وإن كان لا تُكتب عليه السيئات، فتُكتب له الحسنات على الصحيح من الأقوال، والكافر لا تكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات، وبالله التوفيق.

.مسألة حلفت على أختها ألا تشهد لها محيا ولا مماتا فماتت ابنة أختها:

وسئل عن امرأة حلفت على أختها ألا تشهد لها محيا ولا مماتا، فماتت ابنة أختها، فأرادت أن تنتظرها عند باب المسجد فتصلي عليها، وقد كانت حلفت بالمشي إلى الكعبة، فكره ذلك لها.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا صلت عليها، فقد شهدت جنازتها، فوجب أن تحنث، وإن كانت لم تشهدها ولا عَزَّتْهَا ولا قامت معها في شيء من أمرها؛ لأن الحنث يقع بأقل الوجوه، وقوله: فكره ذلك لها، معناه الوجوب، وأنها إن فعلت حنثت، والله أعلم.

.مسألة قال لشريكه هذه الدنانير صدقة على المساكين إن كان لك عندي شيء:

وسئل عن رجل كان له شريك فحاسبه ثم لقيه، فقال له: قد بقي عندك كذا وكذا، وكان مع شريكه دنانير في يده، فقال عند ذلك: هذه الدنانير صدقة على المساكين، إن كان لك عندي شيء.
ثم ذهب إلى منزله فنظر إلى كتب عنده، فإذا هو ما قال شريكه حق، قال: أرى أن يتصدق بالدنانير، ولا ينفعه إن كان حلف، وهو يرى أنه إنما حلف على حق، وإنما ينفعه ذلك في الحلف بالله، فأما الصدقة والعتق والمشي، فلا ينفعه ذلك، وليس اللغو في الصدقة والمشي، إنما اللغو في الحلف بالله، لا يكون إلا في اليمين بالله أو بشيء من صفاته وأسمائه، أو في نذر لا يسمى له.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، وحكمه في المذهب في أن اللغو مخرج؛ لأن الله لم يذكره إلا في اليمين التي أوجب فيها الكفارة، فقال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] الآية، ويجيء على مذهب من أوجب كفارة اليمين بالله في الحلف بالمشي والصدقة، وما أشبه ذلك مما فيه قربة وطاعة، أن يكون اللغو في ذلك.

.مسألة قال لغريمه إن لم تقض صدرا من حقي يوم كذا فَعَلَيّ المشي إلى بيت الله:

وسئل مالك عن رجل كان له على رجل حق، فقال لغريمه: إن لم تقض صدرا من حقي يوم كذا وكذا، فَعَلَيّ المشي إلى بيت الله إن لم ألزمك بحقي كله، قال مالك: أرى الصدر الثلثين، ولو أن رجلا قال: النصف؛ لكان قولا، ولكن الثلثان أحب إليّ إلا أن يكون حين حلف قد أجمع على أمر شيء من أمره، فهو على ما أجمع.
قال محمد بن أحمد: لابن نافع في المبسوطة أنه إذا قال: جل، فذلك أكثر من الثلثين، وإذا قال صدرا فذلك الثلث فما فوقه، وهو في القياس أظهر؛ لأن صدور الأشياء هي الجمل من أوائلها، فالصدر ثم النصف ثم الجل، والله أعلم.

.مسألة قال علي نذر ألا أكلم فلانا:

ومن كتاب أوله صلي نهارا ثلاث ركعات:
مسألة وسئل مالك عن رجل قال علي نذر ألا أكلم فلانا قال: ليكلمه ولا أرى عليه، إنما ذلك مثل ما يقول عليّ نذر أن أكلمه أو أحمل هذا الحجر فلا شيء عليه، إنما كان نذره في كلامه.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال: إن من قال علي نذر أن أكلم فلانا أو لا أكلمه إنه لا شيء عليه كلمه أو لم يكلمه إذ لا طاعة لله في كلامه ولا في ترك كلامه، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه»، فالنذور تنقسم على أربعة أقسام، نذر في طاعة يلزم الوفاء به، ونذر في معصية يحرم الوفاء به، ونذر في مكروه يكره الوفاء به، ونذر في مباح يباح الوفاء به وترك الوفاء به، وسواء كان ذلك كله في فعل أو في ترك فعل، ولا كفارة عند مالك، رَحِمَهُ اللَّهُ على من لم يف بما نذر؛ إما لأنه معصية لا يجوز له الوفاء به وإما لأنه عجز عن الوفاء به، ومن أهل العلم من أوجب في ذلك الكفارة لما روي من أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين»، وإنما تجب الكفارة عند مالك في اليمين بالنذر، مثل أن يقول: علي نذر إن فعلت كذا وكذا أو إن لم أفعل كذا وكذا، كان ذلك للذي حلف على فعله مما يجوز له فعله أو مما لا يجوز، وكان الذي حلف على تركه مما يجوز له تركه أو مما لا يجوز؛ غير أنه إن كان ذلك مما لا يجوز أُمِرَ بالحنث والكفارة، فإن اجترأ وبر سقطت عنه الكفارة.

.مسألة له عند امرأته ذهب فأسلفته أخا لها فعلم الزوج بذلك فحلف ليأخذن حقه:

ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت:
مسألة وسئل مالك رَحِمَهُ اللَّهُ عن رجل كان له عند امرأته ذهب فأسلفت منه أخا لها فعلم الزوج بذلك فحلف ألا يخرج حتى يأخذ حقه منه أو يقضي به عليه سلطان، فقالت امرأته: أنا التي أسلفته وأنا له ضامنة، وقد كان يريد سفرا. قال: لا يخرج حتى يأخذها ولا يقبل ضمانها إلا أن يؤخره السلطان إذا رأى السلطان ذلك.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال؛ لأن الزوج مخير له أن يأخذ بماله من شاء منهما، إن شاء زوجته التي تعدت على ذهبه فأسلفته، وإن شاء أخاها الذي أسلفته إياه؛ فإن أخذ بذهبه الزوجة كان لها أن تتبع أخاها بذلك، وإن أخذ به أخ الزوجة سقطت التباعة عن الزوجة، فإذا حلف ألا يخرج حتى يأخذ حقه من أخي الزوجة إلا أن يؤخره السلطان فليس له أن يترك اتباعه ويرجع عن امرأته، فإن فعل ذلك حنث بما حلف به، وفي قوله: إلا أن يؤخره السلطان إن رأى ذلك دليلٌ على أن للسلطان أن يؤخر الغريم بما حلّ عليه من الديون على ما يراه من موجب للنظر في ذلك، ومثله في أول رسم ابن القاسم من كتاب المكاتب، وبذلك جرت الفتيا عندنا بقرطبة، خلاف ما كان يحكم به في غيرها أن الغريم إذا حل أجل ما عليه من دين لم يؤخر ساعة ولا حينا وبيعت عليه عروضه بالغة ما بلغت إن لم يكن له ناضّ يؤدي منه ما عليه، وهو خلاف ظواهر الروايات عن مالك وأصحابه، وبالله التوفيق.

.مسألة حلف بالمشي إلى بيت الله فحنث:

قال مالك: من حلف بالمشي إلى بيت الله فحنث، فإنه يمشي من حيث حلف وكانت يمين صاحبه ألا يفعل كذا وكذا حتى ينتقل من منزله وكان صاحب خيمة، قال مالك: ولا أحب أن يحولها إلى مكان قريب حتى ينتقل نقلة يعرف أنها نقلة من ذلك الموضع إلى غيره ثم يفعل ما حلف عليه إن أراد إن كان إنما أراد بذلك مخرجا من يمينه.
قال محمد بن أحمد: تكررت هذه المسألة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج، وقوله فيها هنا وهناك: إنه يمشي إذا حنث من حيث حلف لا من حيث حنث يأتي على ما في كتاب ابن المواز العتق الأول من المدونة في الذي يقول: إن كلمت فلانا فكل مملوك أملكه من الصقالبة فهو حر فيشتري بعد يمينه وقبل أن يكلمه صقالبة ثم يكلمه إنهم يعتقون عليه خلاف ما في سماع عبد المالك من كتاب الأيمان بالطلاق الذي يقول: إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها بمصر طالق فتزوج ثم كلمه أنه لا شيء عليه في التي تزوج قبل يمينه، وإنما يلزمه الحنث فيما تزوج بعد كلامه، ولم ير إذ كانت يمينه ألا يفعل كذا وكذا حتى ينتقل من منزله أن اليمين تنحل عنه حتى يكون له أن يفعل ما حلف عليه وإلا لحنث إلا بانتقال من ذلك الموضع إلى غيره من المواضع، وخشي إن حولها إلى مكان قريب ألا يكون ذلك انتقالا تنحل عنه اليمين، فقال: ولا أحب أن يحولها إلى مكان قريب حتى ينتقل نقلة تعرف، وبالله التوفيق.

.مسألة حلف في رقيق لابنه ألا يبيعهم بثمن سماه وللحالف أب:

ومن كتاب المحرم يتخذ خرقة:
مسألة وسئل مالك عن رجل حلف في رقيق لابنه ألا يبيعهم بثمن سماه وللحالف أب فقال له: أنا أبيعهم ليس هم لك فقال له: أسفيه هو؟ يريد الحالف فقالوا: لا فقال: لا أرى أن يبيعهم.
قال محمد بن أحمد: في قوله: لا أرى أن يبيعهم إذا لم يكن سفيها دليل على أن له يبيعهم إذا كان سفيها فجعله في حكم الوصي على ولد ابنه ما دام ابنه سفيها فيلزم على هذا أن يكون وصي الأب وصيا على ولد الولد الذين إلى نظره بإيصاء الأب وهو نحو ما في مختصر ابن شعبان عن مالك أن للوصي أن يزوج بنات يتيمه بعد بلوغهن، فإن رضي الأب بذلك قبل أن يبلغن فلا يلتفت إلى رضاه لسقوط ولايته فهن كاليتامى، قال ابن وهب في أصل سماع أصبغ: والرفع إلى السلطان أحسن، وليس من ذلك ما في كتاب ابن المواز أن المولى عليه إذا قتل وله ولد أصاغر أن وصي الأب أولى من عمومة الصبي، بالدم، وقد كان بعض شيوخه لا يرى وصي الأب وصيا على صغار الولد الموصى بهم، وبالله التوفيق.

.مسألة يحلف أن يحمل الشيء على عنقه إلى بيت الله فلا يقدر:

وسئل مالك عن الرجل يحلف أن يحمل الشيء على عنقه إلى بيت الله فيكون ممن لا يقدر على المشي فيركب أترى عليه هديين أم هديا واحدا؟ قال: يهدي هديا واحدا وليس هذا من الأمور التي مضت فيها سنة ولا أمر، قيل له: فهدي واحد يجزئ عنه؟ قال: نعم.
قال محمد بن أحمد: أوجب مالك على الحالف في هذه المسألة الهدي لركوبه ولم يوجب عليه شيئا لما وضع عن نفسه من حمله الشيء على عنقه فلو مشى ولم يركب لم يجب عليه شيء على هذه الرواية خلافا لما في المدونة في الذي يقول: أنا أحمل هذا العمود أو هذه الطنفسة أو ما أشبه ذلك إلى بيت الله أنه يحج ماشيا ويهدي لموضع ما وضع على نفسه من المشقة في حملان تلك الأشياء إلا أن يفرق بين النذر واليمين مراعاة لقول من لا يرى الشيء واجبا باليمين، والأظهر أن ذلك اختلاق من القول، وألا يكون على الذي قدر أن يحمل الشيء على عنقه إلى بيت الله إلا المشي راجلا كما قال في الذي نذر أن يمشي إلى بيت الله حافيا أنه ينتعل، وإن أهدى فحسن، وإن لم يهد فلا شيء عليه، وهو خفيف إذ لا طاعة لله في حفائه ولا في حمله الشيء على عنقه، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه»، فوجب أن يسقط عنه ما قدّره على نفسه مما لا طاعة لله فيه ولا يلزمه في ذلك شيء ولو لزمه في ذلك شيء لكان الواجب في ذلك كفارة يمين لما جاء في ذلك عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وأخذ به جماعة من العلماء على ما قد ذكرناه في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات قبل هذا.

.مسألة المرأة المولى عليها تحلف بصدقة ما تملك على المساكين:

وسئل مالك عن المرأة المولى عليها تحلف بصدقة ما تملك على المساكين أو بأنها تحمل ابن عم لها إلى بيت الله إن تزوجته فقدر لها أن تزوجته. فقال: أرى أن تمشي إلى بيت الله، قال: إنها لا تستطيع أن تمشي، قال: فلتركب ولتهد قال: إنها صرورة، قال: فلتدخل بعمرة إن أحبت وتمشي بعد حجتها عن نفسها قال: أيجزيها أن تدخل بعمرة في مشيها فتحج لنفسها؟ قال: نعم، قال: أفترى عليها هديين؟ قال: نعم إن اعتمرت في أشهر الحج، فعليها هدي لتمتعها وهدي لما ركبت، وهديان في هذا يجزيان عنها. فقيل له: أفتأكل منهما جميعا؟ فقال: نعم، وأرى عليها صدقة ثلث مالها، قال سحنون: هذا خطأ وما ينفعها الولاية إذا كانت تنفق مالها؟ فليس هو كما قال.
قال محمد بن أحمد: حمل مالك، رَحِمَهُ اللَّهُ حلف المرأة بحمل ابن عمها إلى بيت الله على أنها أرادت حمله على عنقها فأوجب عليها إذا حنثت المشي إلى بيت الله والهدي إن لم تستطع المشي فركبت، وذلك خلاف لما في المدونة في موضعين. أحدهما حمل يمينها على أنها أرادت حمله على عنقها؛ لأنه قال في المدونة فيمن قال أنا أحمل فلانا إلى بيت الله: أنه يحج راكبا ويحج معه بالرجل إلا أن ينوي حمله على عنقه، والموضع الثاني قوله: أنها تمشي إلى بيت الله وتهدي إن لم تستطع المشي فركبت على ما قاله في المسألة التي قبلها؛ لأنه قال في المدونة: إن أراد حمله على عنقه حج ماشيا وأهدى يريد لما وضع عن نفسه من حملانه على عنقه، فعلى قوله فيها: يهدي إن لم يستطع المشي فركب هديين، هديا لركوبه وهديا لما وضع من المشقة في نفسه، وقوله: إنها إن كانت صرورة كان لها أن تدخل بعمرة وتحج بعد ذلك لنفسها وتهدي لتمتعها إن كانت عمرتها في أشهر الحج صحيح مثل ما في المدونة وغيرها لا اختلاف في ذلك، وقوله وأرى عليها صدقة ثلث مالها معناه إذا ملكت أمرها وصار مالها إليها، وكان ذلك هو المال الذي كان لها يوم حلفت فإن كان قد زاد لم يكن عليها أن تتصدق بثلث مالها الزائد، وإن كان قد نقص لم يكن عليها أن تتصدق إلا بثلث الباقي، وأما ما وجب عليها من الهدي لتمتعها ومشيها؛ فإن كان الولي منعها من مالها ولم تصم فعليها إذا ملكت أمر نفسها أن تهدي من مالها كان ذلك المال أو غيره، وفي آخر أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح أنه لا يلزمها في مالها صدقة ولا شيء بسبب الولاية مثل قول سحنون هنا، وهو أظهر؛ لأنه إنما حجر عليها نظرًا لها، فلو كان يلزمها إذا رشدت ما فعلت في حال الولاية لما أغنت عنها شيئا، بخلاف العبد والزوجة ذات الزوج والغريم الذي يقع التحجير عليهم لحق غيرهم، وهذا الاختلاف في المولى عليها إنما هو إذا لم يرد الولي فعلها حتى ملكت أمر نفسها وصار مالها بيدها، وبالله التوفيق لا رب غيره.

.مسألة حلفت لزوجها ألا تتزوج بعشرة نُذُرٍ إلا أن يغلبها أمر لا تملكه فطلقت:

ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة:
مسألة وسئل عن امرأة حلفت لزوجها ألا تتزوج بعشرة نُذُرٍ إلا أن يغلبها أمر لا تملكه فطلقها زوجها فاحتاجت وأرادت التزويج، فقال لها: هل جعلت لذلك مخرجا من حج أو عمرة أو عتق أو صيام؟ قالت: لا، ولكن كان مني مُسْجَلَة، قال: فأطعمي مائة مساكين بالمد الأصغر لكل مسكين مد، فإن لم تقدري فصومي ثلاثين يوما.
قال محمد بن أحمد: قولها إلا أن يغلبها أمر لا تملكه معناه إلا أن تشتهي الرجال أو تخاف على نفسها العنت، وعلى هذا حمل مالك استثناءها؛ ولذلك لم ير الحاجة مما يسقط عنها اليمين، وقوله: إنها تطعم مائة مسكين إن كانت لم تجعل لما نذرت مخرجا صحيح على أصولهم في أن من نذر نذرا، ولم يجعل له مخرجا فكفارته كفارة يمين، وبالله التوفيق.

.مسألة أبق له غلام فأخذه فحلف له إن عدت لأضربنك فعاد فأبق فلم يضربه:

من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب الأقضية مسألة قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع قالا: سئل مالك عمن أبق له غلام فأخذه فحلف له إن عدت لأضربنك، فعاد فأبق فلم يضربه ثم عاد فأبق له فضربه أتراه خرج عن يمينه؟ قال: لا أراه وقّت وقتا وأرى ذلك قد أخرجه عن يمينه إذا ضربه الضرب الذي حلف عليه ضربا لا عذابا ولا دون.
قال محمد بن أحمد: هذا خلاف ما مضى في رسم حلف ليرفعن أمرا من سماع ابن القاسم في مسألة الوتر، وقد مضى القول على ذلك هناك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة يقول لله علي إن جاءني الله بأبي يوم كذا وكذا أن أتصدق أو أعتق:

ومن كتاب الأقضية:
مسألة وسئل عن الرجل يقول: لله علي إن جاءني الله بأبي يوم كذا وكذا أن أتصدق أو أعتق أو أصوم أو أصلي، قال: لا بأس بذلك، قال عز وجل: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، {قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] آل عمران، 35.
قال محمد بن أحمد: أجاز مالك رَحِمَهُ اللَّهُ أن يقول الرجل: لله علي أن أفعل كذا وكذا من الخير ولم ير به بأسا، وقد كره جماعة من أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم النذر، لما روي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن النذر، وقال: إنه لا يغني شيئا ولكن يستخرج به من البخيل» ولما روي عنه أيضا من رواية أبي هريرة أنه قال: «لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا. وإنما يستخرج به من البخيل» ويحتمل أن يكون النهي لم يصح به عند مالك ويحتمل أن يكون معنى النذر المنهي عنه في الحديث تعجيل ما يجب تعجيله أو تأخير ما يجب تأخيره مما لا عمل للنذر فيه إذ لا يغني من القدر شيئا كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالنذر على مذهب مالك ينقسم ثلاثة أقسام:
نذر مستحب وهو النذر المطلق الذي يوجبه الرجل على نفسه شكرا لله على ما كان ومضى.
ونذر جائر وهو النذر المقيد بشرط يأتي.
ونذر مكروه وهو المؤقت الذي يتكرر مع مرور الأيام فقد كرهه في المدونة لشدته مخافة التفريط في الوفاء به، والله أعلم.